لم أتخيل يومًا
- روافد المعرفة
- Jun 21, 2020
- 2 min read

لم يكن يتخيل يوماً أنه سيجلس مسترخياً أمام شاشة تلفاز مسطحة ونحيلة إلى هذا الحد، وفوق ذلك كله تكسوها ألوان زاهية ترسم صورة بغاية الوضوح هكذا، وهو الذي كان ولفترة طويلة يسمع بصندوق خشبي يبث محطة أو محطتين بالأبيض والأسود ويتمنى لو أمتلك واحداً. لم يكن يتخيل حتى أبسط لمحة من ملامح النعيم الذي بين يده اليوم عندما سافر وترك قريته ذاهِباً إلى الطائف ليكمل تعليمه هناك. بعد تخرج "ج" من المرحلة الابتدائية اختارت أمه إرسالهُ ليكمل تعليمه وحيداً، واعتقدُ أن الوحدة لم تكن جديدةً عليه فهو اليتيم الذي لا عم له قريب ولا خال له مجيب وحيد هنا أو هناك ولا فرق. تثقل كاهله دوماً مقولات أمه المجيدة حول الرجولة والرجال الكادحين كبار النفوس الذين لا يبكون حتى لو انهار الزمن فوق رؤوسهم ورؤوس من يحبون. يصف"ج" الطريق والزاد والمركب فيقول: كنت اركب مع رجل من القرية له مصالح في مدينة الطائف، وقد تبرع بنقلي أنا ورفاقي بداية كل عام إلى الطائف حيث لا نرجع إلى القرية إلا بعد نهاية العام منتظرين إعلان أسماء الناجحين عبر الراديو. كان الطريق غير ممهد وكانت الرحلة طويلة غير مريحه لكننا حينها كنا نجدنا محظوظين مقارنةً مع غيرنا ولم أتخيل يوماً أنني سأمتلك سيارتين أفضل منها أقودهما بنفسي إلى حيث أشاء. إنه يذكر جيداً مكان توقف السيارة والطريق الذي كان يسلكه مع رفاقه نحو مدرسة دار التوحيد، يتذكر أيضاً تلك المخاوف التي سكنته من الخروج ليلاً لقضاء حوائجه وحرصه على إنهاء كل شيء خارج المنزل قبل أن تودعهم شمس ذلك اليوم. في ذلك الشارع يبدو أن كل بيت وكل محل حفر جزء من أساساته في ذاكرة "ج" وجزء في تراب ذلك الطريق، هو يبتسم اليوم كلما مر من هناك فقد تغير المكان كثيراً لكن بعض المعالم لازالت تستوقف ذاكرته لتدردش معها قليلاً عن الماضي، ومجدداً لم يتخيل أن يمر بعد تقاعده من ذات الطريق التي مر منها قبل أن يبدأ عمله.
حكى "ج" لأحفاده الذين التفوا حوله ذات يوم عن ثوبه الوحيد الذي كان يمتلكه وكيف أنه اضطر إلى أن يلبسه وفيه فتحة شبه دائرية كبيرة في مكان ما لم يتذكره الان فقال: كان زملائي يغسلون ثيابهم ويكونها للدرس وأنا لم ارغب بأن أبدو أقل منهم فأصبحت أرسل ثوبي مع ثيابهم وذات يوم عاد مثقوباً جراء خطأ ارتكبه المكوجي فلبسته واكملت عامي الدراسي وكأن شيء لم يكن فأنا لا أملك مالاً لأرقع ثوبي ناهيكم عن شراء ثوب جديد ولا داعي لان اخبركم أنني لم أتخيل أن امتلك يوماً خزانة مليئة بالثياب. كانت الطائف خلال 6 سنوات أبعد الوجهات لصبي مثله و لكنه و كما لم يتخيل من قبل غادرها إلى مكان أبعد بكثير ذاهباً إلى الرياض حيث تجتمع عليه وحدة و بعد و غربة و فقر و يُتم كان يخبر من حوله عنها قائلاً : يشبه الأمر أنك لا تدري من أيها تشكو و عن أي محنة تقول بأنها الأصعب، لكنك في نهاية كل حيرة تقرر الصمت و المضي قدماً لأن ذلك هو الحل الوحيد و حين تفعل ذلك لن تتخيل ما يمكن أن يحدث لك مستقبلاً ولا ما يمكن لك الحصول عليه ، انا كذلك فعلت ذلك ولم اتخيل يوماً أن اجلس مرتاحاً بين أحفادي و أبنائي لدي تلفاز و خزانة ثياب وسيارة و منزل كبير يجمع كل تلك الأشياء و أكثر .
الكاتبة: أنفال علي أحمد الزهراني
Comments